السبيل إلى فهم إعجاز النظم القرآني، فغير مُتصور أن يكون لمن أعوزته الدراية بأسرار التعبير في لغةٍ ما، أن يقدر روائع نصوصها، فضلاً عن أن يميز وجه البلاغة فيها.
ثم إن الجرجاني في تقديره لبلغاء العرب، قد نجا مما تورط فيه "الباقلاني" حين تعقب مشهور القصائد والخطب لفحول لاشعر وأمراء البيان، بالتهوين والتحقير والزراية، فانساق بهذا، من حيث لا يدي، إلى أن العرب الفصحاء في عصر المبعث، ما سلموا بإعجاز القرآن إلا وهم هابطوا المستوى جاهلون بأسرار البيان. وقد نرى الوجه في الإعجاز، أن يكونوا قد بلغوا من علو المستوى في الفصاحة والبلاغة، ما يجعلهم قادرين على إدراك هذا الإعجاز.
لكنا نختلف مع الجرحاني، في أن تُلتمس أسرار البيان العربي في شعر الشعراء ونثر البلغاء، ولا تلتمس في النص الأعلى الذي لا يمكن أن يصحَّ لنا ذوق العربية بمعزل عنه.
وإذا كنا نأخذ على المتأخرين من علماء البلاغة، التماسهم ملاحظها وشواهدها من النماذج الشعرية والنثرية التي أرضت ذوقهم، وكان ينبغي أن يجتلوا بلاغة العربية في كتابها الأكبر،
فكيف يهون أن نتناول مباحث البلاغة بمعزل عن القرآن الكريم، في كتاب يقدم هذه المباحث مدخلاً لفهم النظم القرآني ودلائل إعجازه؟!
على أي حال، نرى الجرجاني في (دلائل الإعجاز) قدم ملاحظ دقيقة مما لمحه من أسرار البلاغة العربية، ولم يقدم دراسة قرآنية للإعجاز البلاغي، وهذه المباحث تأخذ مكانها في الدرس البلاغي، ولعلها تجلو براعة بلغاء العرب واقتدارهم على فن القول، لكن دون أن تتصل بإعجاز القرآن إلا على وجه التوطئة والوسيلة والتمهيد. . .
ويظل السؤال قائماً: ما وجه فوت النظم القرآني نظم البلغاء من العرب؟ وماذا بهرهم من أسرار بيانه فانقطعوا دون وأعياهم أن يأوا بسورة من مثله؟
ولعل إدراك الجرجاني لقوصر (دلائله) عن أن تتجاوز المدخل إلى الموضوع،