والدلائل إلى الأدلة، والوسيلة إلى الغرض، هو الذي جعله يختم مباحثه البلاغية في (دلائل الإعجاز) بفضل يحيل فيه إدراك البلاغة على مبهمات ومجردات مما سماه الذوق والإحساس الروحاني، والأمور الغامضة الخفية. والناس عنده مرضى حتى يلتمسوا الطب لديه.
وقد يجدي أن أنقل هنا هذا الفصل الختامي من (دلائل الإعجاز) يلخص مذهب الجرجاني ويوضح طريقته في التناول وأسلوبه في الجدل والاحتجاج:
"اعلم أنك لن ترى عجباً من الذي عليه الناس في أمر النظم. وذلك إنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن ههنا نظماً أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم بذلك تسدر أعينُهم وتضل عنهم أفهامُهم. وسبب ذلك أنهم أوَّل شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ جون المعاني. فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضاً مزمناً وداء متمكناً.
"ثم إذا أنت قُدتَهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعدُ خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنهم يروننا ندعى المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يُتصور أن يتفاضل الناس في العلم به. ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء يُعم أن من شأن هذا، أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه. بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه، في موضع دون موضع وفي كلام دون كلام وفي الأقل دون الأكثر وفي الواحد دون الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولاً، ومن أين يُتصور أن يكون للشيء في كلام مزيةٌ عليه في كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟ فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير حيلة في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من أن له حسناً ومزية، وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهماً منا وتخيلاً.
"ولسنا نستطيع في مشف الشبهة في هذا عنهم، ما استطعناه في نفس النظم -