وعرف لطف موضع الحذف والتنكير في قوله * نظرٌ وتسليم على الطرق * وما في قول البحتري * لي عليك دموع * من شبه السحر،. . . وعرف كذلك شرف قوله * نجوم لو طلعن بأسعد * وعلو طبقته ودقة صنعته. . .
"والبلاء والداء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى لإنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه، في شعر يقوله أو رسالة يكتبها، الموقعَ الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن.
"فأما الجهل بمكان الإساءة، فلا تعدمه بمن له طبع إذا قدحته وَرَى، وقلبٌ إذا أريته رأى، فأما وصاحبك كم لا يرى ما تُريه ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رامٍ معه في غير مرمى، ومَعَنَّ نفسك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تُفهم هذا الشأن مَن لم يُؤت الآلة التي بها يُفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم غَيَّة لاستحيا منه. فأما الذي يحس بالنقص من نفسه ويعلم إنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت معه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماع عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلف ما ليس بأهل له".
ويستطرد الجرجاني في بيان عقد (الدلائل) مع خصم معاند لا يملك من الذوق والروحانية والأريحية ما يدرك به فروق البلاغية في النظم، فيذكر أن العلوم التي لها أصول معروفة وقوانين مضبوطة، قد يخطئ فيها المخطئ ثم يعجب برأيه فلا تستطيع رده عن هواه وصرفَه عن الرأي الذي رآه إلا بعد الجهد والمشقة، إذا كان حصيفاً عاقلاً. وهذا الصنف من الناس العقلاء يعز ويقل.
"فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن - مزايا النظم يتفاضل بها الكلام - وأصُلك الذي تردهم إليه وتعول في محاجتهم عليه، استشهادُ القرائح وسبر النفوس وفَلْيُها، وما يعرض فيها من الأريحية عند ما تسمع؟
"وهو لا يضعون أنفسهم موضع مَن يرى الرأي ويفتي ويقضي، إلا وعندهم أنهم ممن صفَت قريحته وصح ذوقه وتمت أدانه. فإذا قلت لهم: إنكم قد أوتيتم من أنفسكم. ردوا عليك مثله وقالوا: لا، بل قرائحنا أصح ونظرنا أصدق وحِسُّنا أذكى، وإنما الآفة فيكم لأنكم خيَّلتم إلى أنفسكم أموراً لا حاصل لها، وأوهمكم