الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلاً على الآخر، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً.
"فتبقى في أيديهم حسيراً لا تملك إلا التعجب!
"فليس الكلام بمغن عنك لا القول بنافع ولا الحجة مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه، ومن إذا أبى عليك ذلك طبعُه فردَّه إليك وفتح سمعَه لك، ورفع الححجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت، فاستبدل بالنفار أنسا وأراك من بعد الإباء قبولاً. . .
"ولم يكن الأمر - في بلاغة النظم والمزايا التي يتفاضل بها - على هذه الجملة، إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقاً في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسَك وتكد فيخ فكرك وتجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قتلته علماً وأحكمته فهماً، كنت بالذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة ويعرض فيه شك، كما قال أبّو نواس:
ألا لا أرى مثل امترائىَ في رسم. . . تغص به عيني ويلفظه وهمي
"وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفى لم تكن قد علمته. . . " ٣٩٣: ٤٠٣.
* * *
ومضى "الجرجاني" بعد أن أتم توجيه البلاغة لتكون علم الاستدلال للإعجاز، ونقل القضية نقلة حاسمة إلى ميدان الدرس البلاغي بمعزل عن القرآن نفسه! فرسم معالم الطريق لمن جاءوا بعده، فأفردوا البلاغة بالدرس والتأليف المستقل، يرون أنهم بهذا يخدمون المعجزة القرآنية ويَهدون إلى فهم إعجازها.