وتفرعت دروب الدارسين بعد الجرحاني، وإن أخذوا عنه أو داروا في فلَكه: منهم من رأى أن محاولة الجرجاني في (دلائل الإعجاز) تحتاج إلى إعادة ترتيب وتحرير وتهذيب، كالفخر الرازي الذي ألف كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) فاعترف بأن الجرجاني كان الذي استخرج أصول هذا العلم وأقسامه وشرائطه وأحكامه، لكنه أهمل رعاية ترتيب الأصول والأبواب، وأطنب في الكرم كل الإطناب.
ومنهم من قدر حاجة هذه المباحث البلاغية إلى أن تلتمس لها الشواهد القرآنية كصنيع ابن أبي الإصبع المصري (ت ٦٥٤ هـ) الذي نسق كتابه (بديع القرآن) - والبديع عنده بمعنى البلاغة - في مائة وعشرين باباً، تحرى فيها الاستئهاد بالقرآن الكريم، وإن يكن في الغالب، قد اكتفى في أكثر هذه الأبواب بأن يذكر المصطلح البديعي للباب، ثم يتبعه بالشاهد أو الشواهد القرآنية، دون تفصيل لبيان وجه القوة أو سر البلاغة فيه.
ومنهم من اكتفى بما وجه إليه الجرجاني من دراسة البلاغة طريقاً لفهم الإعجاز ودلائَل عليه، فاستقل بالبحث البلاغي بعيداً عنة قضية الإعجاز، كما عزل البلاغة عن معاني النحو التي قرر الجرحاني، بحق، أنها داخلة في بلاغة النظم. وإمام هذه المدرسة هو "السكاكي" - ت ٦٢٦ هـ - الذي جعل البلاغة في (مفتاح العلوم) علماً يُحَّصل وصنعة تضبط بقواعد منطقية.
وكان حظ القرآن من (مفتاح العلوم) وشروحه، بضع شواهد قرآنية سيقت مع حشد من شواهد وأمثلة أخرى من قول البشر. ثم كان الجهد، كل الجهد، موجهاً إلى العناية بإجراء الصنعة البلاغية التي تتعلق في التشبيه مثلاً: ببيان أركانه وأداته ووجهه وأقسامه ومرتيته، وفي الاستعارة: بمعرفة المستعار له والمستعار منه والجامع والقرينة والتجريد والتصريح والترشيح. . . وفي المجاز والكناية: ببيان المعنى الأصلي والمعنى المجازي، والعلاقة وأنواعها، والقرينة مانعة أو غير مانعة من إرادة المعنى الأصلي. وفي البديع: بالمحسنات اللفظية وغير اللفظية وضروبها ومصطلحاتها.