للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما علماؤنا فإنهم ذهبوا إلى أن الخاص إنما وجب حكمه قطعاً لأن اللفظ وضع له في الأصل فكان ذلك حقيقته فلاحتمال المجاز لم يتغير حكمه في نفسه ما لم تقم الدلالة، والعموم في الأصل ما وضع إلا للتعميم والشمول منه حقيقة على ما بينا فلاحتمال مجازه وهو المخصوص لا يتغير حكمه في نفسه حتى تقوم الدلالة.

فإن قال قائل: فكذا أقول في الخاص إن حقيقته لا تثبت قطعاً ما لم يتبين أنه لم يرد به مجازه كالنصوص في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت توجب بقاء الحكم قطعاً لاحتمال النسخ وإن لم يثبت النسخ بعد.

قلنا له: إن المجاز لا يثبت من الكلام إلا بإرادة المتكلم النقل إليه عما وضع اللفظ له، والإرادة لا تثبت إلا ببيان من قبله أو دلالة الحال أو العرف ونحوها، فإذا انعدمت دلالات الإرادة لم يثبت الناقل فلم يثبت النقل فبقيت الحقيقة قطعاً بلا احتمال، وهذا كالنص المطلق فإن حكمه يثبت مطلقاً قطعاً، وإن احتمل التغيير بزيادة قيد أو تعليق شرط لأن الثاني إنما يثبت بزيادة بيان ولم يثبت.

وما هذا بنظير بقاء الحكم قطعاً على ما يثبت ابتداء ً لأن النص أوجب حكمه فأما البقاء على ما يثبت فليس بموجب به، ولكن من حيث أن الشيء إذا ثبت دام حتى يقوم دليل الزوال فكان البقاء بحكم استصحاب الحال لعدم الدلالة والعدم في نفسه فيه احتمال ما كان يعلم قطعاً فكذلك موجبه لا يثبت قطعاً حتى لما تيقنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم النسخ ثبت البقاء قطعاً.

فإن قيل: إن عدم إرادة المتكلم الخصوص ما عرفت إلا بعدم الدلالة عليها فلا يثبت قطعاً كعدم النسخ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف عدم التعليق والاستثناء فإن طريق ثبوتهما النص عليهما فإذا سكت عنهما ثبت العدم يقيناً.

قلنا: إن الإرادة لما كانت باطنة لا يوقف عليها إلا ببيان لم يكن حجة علينا أصلاً حتى تظهر بطريقها لأن الله تعالى لم يكلفنا ما ليس في وسعنا فلا يجعل الباطن الذي لا نقف عليه حجة حتى يظهر، ويكون ابتداء ثبوته حجة بظهوره فصارت بمنزلة الشرط والاستثناء في الحكم، وهذا كما قيل إن ابتداء الشرائع ما كانت تلزم إلا بعد السماع لأن العبد لا يقف عليه إلا بسماعه فكان لحال سماعه حكم نزول الخطاب ابتداء، وهذا كما قيل فيمن قال لامرأته: إن كنت تحبيني فأنت طالق، فقالت: أحبك، كذباً وهي تبغضه، أو علق الطلاق بمحبتها النار، فقالت: أحب. طلقت، وإن تيقنا بالكذب لأن المحبة لا تعرف إلا بالخبر عنها فقام الخبر مقام المحبة حقيقة ليكون بناء الحكم على ما نطلع عليه، وصار كأنه قال لها: إن أخبرتني أنك تحبيني فأنت طالق، والخبر يشتمل على الكذب والصدق جميعاً فطلقت في الحالتين بوجود الخبر دون المحبة حقيقة، فهذا سر المسألة ومزل القدم.

<<  <   >  >>