للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

موسى الذي آمنوا به {أشد عذاباً وأبقى} أي: أدوم على مخالفته فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسي في قوله: أينا أشد عذاباً وأبقى؟ أجيب: بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، قال الرازي: ومن استقرىء أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء، ثم كأنه قيل فما قالوا له؟ فقيل:

{قالوا} له: {لن نؤثرك} أي: نختارك {على ما جاءنا} على لسان موسى {من البينات} التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا: {والذي} أي: ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي: ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.

تنبيه: قد علم مما تقرر أن والذي معطوف على ما وإنما أخروا ذكر الباري تعالى؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له: {فاقض} أي: فاصنع في حكمك الذي تمضيه {ما أنت قاض} أي: فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنما تقضي} أي: تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه {هذه الحياة الدنيا} النصب على الاتساع أي: إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم، ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم:

{إنا آمنا بربنا} أي: المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره {ليغفر لنا} من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك {خطايانا} التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا: {وما أكرهتنا عليه} وبينوا ذلك بقولهم: {من السحر} لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى.

فإن قيل: كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة؟ أجيب: بأنه قد روي أن رؤوساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون: إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة.

وقيل: إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله {والله} أي: الجامع لصفات الكمال {خير} جزاء منك فيما وعدتنا

<<  <  ج: ص:  >  >>