للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره.

فإن قيل: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب: بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، ويجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.

ومنه قول الناس: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، قال البقاعي: فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها، ثم كأنه قيل: فإذا يقال لهؤلاء فقال:

{قال} لهم: {ربي} المحسن إلي {يعلم القول} سواء كان سراً أم جهراً كائناً {في السماء والأرض} على حد سواء؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك {وهو السميع العليم} ، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.

فإن قيل: هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى: {وأسروا النجوى} (طه، ٦٢)

أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر كما أن قوله: يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.

فإن قيل: لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} (الفرقان، ٦) ، ولم يقل: يعلم القول كما هنا؟ أجيب: بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتاناً، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله تعالى: {علام الغيوب} (المائدة، ١٠٩)

{عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة} (سبأ، ٣) ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر، ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يقوله بقوله تعالى:

{بل قالوا} أي: قال بعضهم هذا الذي قال لكم: {أضغاث أحلام} أي: أخلاط أحلام رآها في النوم، وقال بعضهم: {بل افتراه} أي: اختلقه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، وقال بعضهم: {بل هو} أي: النبي صلى الله عليه وسلم {شاعر} فما جاءكم به شعر، والشاعر يخيل ما لا حقيقة له لغيره، أو أنهم كلهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا المبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد؛ قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذا الرابع أفسد من الثالث، ثم إنهم لما قدحوا في أعظم المعجزات طلبوا آية غيره، فقالوا: {فليأتنا} دليلاً على

<<  <  ج: ص:  >  >>