الذي أوضح لنا جلاله وعظمته وكماله {وبالرسول} أي: الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما قام عليها من الأدلة {وأطعنا} أي: وأوجدنا الطاعة لله ولرسوله، ثم عظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال تعالى:{ثم يتولى} أي: يرتد بإنكار القلب، ويعرض عن طاعة الله ورسوله ضلالاً منهم عن الحق {فريق منهم} أي: ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {من بعد ذلك} أي: القول السديد المؤكد مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق {وما أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد {بالمؤمنين} أي: المعهودين الموافقة قلوبهم ألسنتهم فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم: وما أولئك بالمؤمنين مع أن المتولي فريق؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، ولو رجع إلى الجملة الأولى لصح، ويكون معنى قوله تعالى:{ثم يتولى فريق منهم} أي: يرجع عن هذا الفريق إلى الباقي، فيظهر بعضهم لبعض الرجوع كما أظهروه بينهم، ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم قبح عليهم ما أظهروه فقال تعالى معبراً بأداةالتحقيق:
n
{وإذا دعوا} أي: الفريق الذين ادعوا الإيمان من أيّ داعٍ كان {إلى الله} أي: إلى ما نصب الملك الأعظم من أحكامه {ورسوله} وأفرد الضمير في قوله تعالى: {ليحكم} وقد تقدمه اسمان وهما الله ورسوله، فهو كقوله تعالى:{والله ورسوله أحق أن يرضوه}(التوبة، ٦٢)
؛ لأن حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري: كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد ومنه قوله:
*ومنهل من الفلافي أوسطه
... غلسته قبل القطا وفرّطه
أي: قبل فرط القطا {بينهم} أي: بما أراه الله {إذا فريق منهم} أي: ناس مجبولون على الأذى {معرضون} أي: فاجؤوا الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
{وإن يكن لهم} أي: على سبيل الفرض {الحق} أي: بلا شبهة {يأتوا إليه} أي: الرسول {مذعنين} أي: منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم لأنهم يعلمون أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، فليس انقيادهم لطاعة الله ورسوله.
تنبيه: قوله تعالى: {إليه} يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال: لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال، ثم قسم تعالى الأمر في عدولهم عن حكومته صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب بقوله تعالى:
{أفي قلوبهم مرض} أي: نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، أو مرتابين في نبوته بقوله تعالى:{أم ارتابوا} أي: بأن رأوا منك تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم بك أو خائفين الحيف في قضائه بقوله تعالى: {أم يخافون أن يحيف} أي: يجور {الله} أي: الغني عن كل شيء لأن له كل شيء {عليهم ورسوله} أي: الذي لا ينطق عن الهوى، ثم أضرب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول بقوله تعالى:{بل أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الظالمون} أي: الكاملون في الظلم، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني: إما أن يكون محققاً