ومن تبعه من أمّته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبلهم، ثم علل الإنذار بقوله تعالى:
{ذكرى} أي: تنبيهاً عظيماً على ما فيه النجاة، أو جعل المنذرين نفس الذكرى، كما قال تعالى {قد أنزلنا إليكم ذكراً رسولاً} (الطلاق: ١٠ ـ ١١)
وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه {وما كنا ظالمين} أي: في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا وعبدوا غيرنا بعد الإعذار إليهم ومتابعة الحجج ومواصلة الوعيد.
تنبيه: الواو في قوله: {وما كنا} واو الحال من نون أهلكنا فإن قيل: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} ؟ (الحجر: ٤)
أجيب: بأنّ الأصل عزل الواو لأنّ الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله تعالى: {سبعة وثامنهم كلبهم} (الكهف: ٢٢)
ولما كان الكفرة يقولون إنّ محمداً كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما تتنزل به الشياطين، أكذبهم الله سبحانه وتعالى بقوله.
{وما تنزلت به الشياطين} أي: ليكون سحراً أو كهانةً أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
{وما ينبغي} أي: وما يصح {لهم} أن يتنزلوا به {وما يستطيعون} أي: التنزل به وإن اشتدّت معاجلتهم على تقدير: أن يكون لهم قابلية لذلك، ثم علل هذا بقوله تعالى:
{إنهم عن السمع} أي: لكلام الملائكة {لمعزولون} أي: محجوبون بالشهب، ولما كان القرآن داعياً إلى الله تعالى ناهياً عن عبادة غيره تسبب عن ذلك قوله تعالى:
{فلا تدع مع الله} أي: الحائز لكمال الصفات {إلهاً آخر فتكون} أي: فيتسبب عن ذلك أن تكون {من المعذبين} من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا خطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه معصوم من ذلك، قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق لديّ وأعزهم عليّ ولئن اتخذت إلهاً غيري لعذبتك فيكون الوعيد أزجر له ويكون هو أقبل، روى محمد بن إسحاق بسنده عن عليّ رضى الله عنه أنه قال لما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم
{وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به فلما وضعته تناول صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال كلوا بسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثم قدّمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال سحركم محمد صاحبكم فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكملهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم