*فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب*
قال الزمخشريّ: والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى {وسبحان الله رب العالمين} من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات.
{يا موسى إنه} أي: الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة {أنا الله} أي: البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام: أحدهما: {العزيز} أي: الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني:{الحكيم} أي: الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.
فإن قيل: هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى؟ أجيب: بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى، ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى:
{وألق عصاك} فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد {فلما رآها تهتز} أي: تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جان} أي: حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي: موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى:{مدبراً} أي: التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى: {ولم يعقب} أي: لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.
تنبيه: قال الزمخشري: وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل: له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان: أنه لا يشترط ذلك، ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب: بأنه قيل له {يا موسى لا تخف} أي: منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى: مبشراً بالأمن والرسالة {إني لا يخاف لديّ} أي: عندي {المرسلون} أي: من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، وقوله تعالى.
{إلا من ظلم} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى:{ثم بدّل} أي: بتوبته