من بقوله تعالى:{الذين عملوا السيئآت} تصويراً لحالهم وتقبيحاً لهم وتنفيراً من عملها {إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي: مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ، فإن قيل قال تعالى:{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}(الإسراء: ٧)
كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك؟.
أجيب: بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى، فإن قيل كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآبار؟ أجيب: بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
{إن الذي فرض} أي: أنزل {عليك القرآن} قاله أكثر المفسرين، وقال عطاء: أوجب عليك العمل بالقرآن، وقال أبو عليّ: فرض عليك أحكامه وفرائضه {لرادّك إلى معاد} أي: معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت، وقال الزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقيل إلى الجنة.
وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد، وقال القتيبي: معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: اشتقت إلى بلدك ومولدك قال: نعم قال: فإنّ الله تعالى يقول: {أن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} قال الرازي: وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب، قال أهل التحقيق: وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ونزل جواباً لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين {قل} أي: للمشركين {ربي أعلم من جاء بالهدى} وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه {ومن هو في ضلال مبين} يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال، تنبيه: من جاء منصوب بمضمر أي: يعلم أو بأعلم أن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله.
{وما كنت ترجو} أي: في سالف الدهر بحال من الأحوال {أن يلقى} أي: ينزل على وجه لم تقدر على رده {إليك الكتاب} أي: يوحى إليك القرآن، قال البيضاوي أي: سيردك إلى معاد كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه وهو ظاهر على أن المراد بالمعاد مكة وقوله تعالى: {إلا رحمة} استثناء منقطع أي: لكن ألقى إليك الكتاب رحمة {من ربك} أي: فأعطاك القرآن، وقيل: متصل قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة فيكون استثناء من الأحوال أو من المفعول له {فلا تكونن ظهيراً} أي: معيناً {للكافرين} على دينهم الذي دعوك إليه، قال مقاتل: وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
{ولا يصدنك عن آيات الله} أي: قراءتها والعمل بها {بعد إذ نزلت