من ذكر هادم اللذات أي: الموت فإنه ما ذكر في قليل أي: من العمل إلا كثره ولا ذكر في كثير أي: من أمل الدنيا إلا قلله، ولما هوّن أمر الهجرة حذر من رضي في دينه بنقص شيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزّود للمعاد بقوله تعالى:{ثم إلينا ترجعون} على أيسر وجه فنجازي كلاً منكم بما عمل، وقرأ أبو بكر بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية.
{والذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات لنبؤنهم} أي: لننزلنهم {من الجنة غرفاً} أي: بيوتاً عالية، قال البقاعي: تحتها قاعات واسعة، وقرأ حمزة والكسائي بعد النون بثاء مثلثة ساكنة وبعدها واو مكسورة وبعد الواو ياء مفتوحة أي: لنثوينهم أي: لنقيمنهم من الثواء وهو الإقامة يقال ثوى الرجل إذا أقام فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم، أو بنزع الخافض اتساعاً أي: في غرف أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم كقوله: {لأقعدنّ لهم صراطك}(الأعراف: ١٦) ، والباقون بعد النون بباء موحدة وبعدها واو مشدّدة وبعد الواو همزة مفتوحة وعلى هذه القراءة فانتصابها على أنها مفعول ثان لأنّ بّوأ يتعدّى لاثنين، قال الله تعالى:{تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال}(آل عمران: ١٢١)
ويتعدّى باللام قال تعالى:{وإذ بوّأنا لإبراهيم}(الحج: ٢٦) ، ولما كانت العلالي لا تروق إلا بالرياض قال تعالى:{تجري من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار إلا أن يكون فيه بساتين كبار وزروع ورياض وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي، ولما كانت بحالة لا نكر فيها يوجب هجرة في لحظة ما كنى عنه بقوله تعالى:{خالدين فيها} أي: لا يبغون عنها حولاً، ثم عظم أمرها وشرف قدرها بقوله تعالى:{نعم أجر العاملين} أي: هذا الأجر وهذا في مقابلة قوله تعالى للكافر: {ذوقوا ما كنتم تعملون}(العنكبوت: ٥٥) ، ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة بقوله تعالى:
{الذين صبروا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرّت عندهم فكانت سجية لهم فأوقفوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها فإنّ الإنسان قل أن ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه، ثم رغب في الاستراحة بالتفويض إليه بقوله تعالى:{وعلى ربهم} أي: المحسن إليهم وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون} أي: يوجدون التوكل إيجاداً مستمرّاً لتجديد كل مهم يعرض لهم، ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة لا مال ولا أهل قال عاطفاً على ما تقديره فكأين من متوكل عليه كفاه ولم يحوجه إلى أحد سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه.
{وكأين من دابة} أي: كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا تحمل} أي: لا تطيق أن تحمل {رزقها} أي: لا تدخر شيئاً لساعة أخرى لأنها قد لا تدرك نفع ذلك وقد تدركه وتتوكل، وعن الحسن: لا تدخر إنما تصبح فيرزقها الله تعالى، وعن ابن عيينة: ليس شيئاً يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة، وعن بعضهم قال رأيت البلبل يدخر في حنية، ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها أو لا تجده أو لا تطيق حمله لضعفها، ثم كأنه قيل فمن يرزقها فقيل {الله} أي: المحيط علماً وقدرة المتصف بكل كمال {يرزقها} على ضعفها وهي لا تدخر {وإياكم} مع قوتكم وادخاركم واجتهادكم لا فرق بين ترزيقه لها على