ولا يلحقه في ذلك نبي مدى الأيام فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أومأ بتعبيره بأداة البعد في قوله تعالى:
{تلك} أي: الآيات التي هي من العلوّ والعظمة بمكان {آيات الكتاب} أي: الجامع لجميع أنواع الخير {الحكيم} بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقص شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء من كلامه الدال ذلك على تمام علم منزله وشمول عظمته وقدرته، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى:
{هدى ورحمة} بالرفع وهي قراءة حمزة خبر مبتدأ مضمر هي أو هو، وقرأ الباقون بالنصب على الحال من آيات والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقال تعالى {للمحسنين} إشارة إلى أنّ رحمة الله قريب من المحسنين فإنه تعالى قال في البقرة: {ذلك الكتاب} ولم يقل الحكيم وههنا قال: الحكيم؛ لأنه لما زاد ذكر وصف في الكتاب زاد ذكراً من أحواله فقال {هدى ورحمة} وقال هناك {هدى للمتقين} فقوله تعالى هدى في مقابلة قوله تعالى الكتاب، وقوله تعالى: ورحمة في مقابلة قوله تعالى: الحكيم، ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكمة كقوله تعالى في عيشة راضية أي: ذات رضا. وقوله تعالى هناك: للمتقين وقوله تعالى هنا للمحسنين لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال للمتقين أي: يهدي به من يتقي الشرك والعناد، وههنا زاد قوله تعالى ورحمة فقال للمحسنين كما قال تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(يونس: ٢٦) فناسب زيادة
قوله تعالى ورحمة ولأنّ المحسن يتقي وزيادة ثم وصف المحسنين بقوله تعالى:
{الذين يقيمون الصلاة} أي: يجعلونها كأنها قائمة بسبب إتقان جميع ما أمر به فيها وندب إليه، ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس مرّات إلا معظم له بالحج فعلاً أو قوّة {ويؤتون الزكاة} أي: كلها فدخل فيها الصوم؛ لأنه لا يؤّدي زكاة الفطر إلا من صامه فعلاً أو قوّة. ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه وحاملاً على سائر وجوه الإحسان قال تعالى {وهم بالآخرة} أي: التي تقدّم أنّ المجرمين عنها غافلون {هم يوقنون} أي: يؤمنون بها إيمان موقن فهو لا يفعل شيئاً ينافي الإيمان، ولا يغفل عنه طرفة عين، فهو في الذورة العليا من ذلك فهو يعبد الله تعالى كأنه يراه، فآية البقرة بداية وهذه نهاية، ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال الموجبة للكمال وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها بعد أن زمها بزمامها فقال.
{أولئك} أي: العالو الرتبة الحائزون من منازل القرب أعظم رتبة {على هدى} أي: متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال {من ربهم} تذكيراً لهم بأنه لولا إحسانه لما وصلوا إلى شيء ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب خوفاً من الإعجاب {وأولئك هم المفلحون} أي: الظافرون بكل مراد، لما بين سبحانه وتعالى حال من تحلى بهذا الحال فترقى إلى حلية أهل الكمال بين حال أضدادهم بقوله تعالى:
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث} أي: ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحك وفضول الكلام، فإن قيل: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ أجيب: بأنّ معناها التبيين وهي الإضافة بمعنى من وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه كقوله: جبة خزَ وباب ساجٍ، والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبين بالحديث،