للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه، ولهذا قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: ١٣)

وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد، ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلاً ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلاً كما قال تعالى:

{وإذا غشيهم} أي: علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم {موج} أي: هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متابعاً يركب بعضه بعضاً كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى {كالظلل} فقال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، فإن قيل: كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع؟ أجيب: بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة {دعوا الله} أي: مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه {مخلصين له الدّين} أي: الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئاً سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك {فلما نجاهم} أي: خلصهم من تلك الأهوال {إلى البر} نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين {فمنهم} أي: تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم {مقتصد} أي: عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض، قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، قال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، قال الكلبي: مقتصد في القول أي: من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولاً وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت: ٦٥)

وقال هنا {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} ؟ أجيب: بأنه لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى {وما يجحدنا بآياتنا إلا كل ختار} أي: غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي: لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر {كفور} أي: للنعم في مقابله قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي: يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور، فالصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه. وأما أن الكفور في

<<  <  ج: ص:  >  >>