تعالى بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً}(الإسراء: ١)
وأيضاً وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة {إنه أواب} أي: رجاع إلى مرضاة الله تعالى، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى:{إن إلينا إيابهم}(الغاشية: ٢٥)
وهذا بناء مغالبة كما يقال: قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد بن جبير: مسبح بلغة الحبشة، ويؤيد هذا قوله تعالى:
{إنا} أي: على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي: التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلواً ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله تعالى:{معه} أي: مصاحبة له {يسبحن} أي: بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها: أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً وحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى، ثانيها: قال القفال: إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، ثالثها: أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته {بالعشي والإشراق} قال الكلبي: غدوةً وعشياً، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها، قال الزجاج: يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل: هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالاً، تقول العرب: شرقت الشمس ولما تشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس: كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق» ، وروى طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا: لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وقوله تعالى:
الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى
{والطير محشورةً} أي: مجموعة إليه تسبح معه، عطف مفعول على مفعول، وهما الجبال والطير، أو حال على حال، وهما يسبحن، ومحشورة كقولك: ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة أدل على القدرة والحاشر هو الله تعالى؟ فإن قيل: كيف يصدر تسبيح الله تعالى من الطير مع أنه لا عقل لها؟ أجيب: بأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً ولا حتى تعرف الله تعالى فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود عليه السلام {كلٌ} أي: من الجبال والطير {له} أي: لداود أي: لأجل تسبيحه {أواب} أي: رجاع إلى طاعته بالتسبيح وقيل: كل مسبح فوضع أواب موضع مسبح وقيل: الضمير في له للباري تبارك وتعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.