كان له ضعف ما كان، وقوله تعالى:{رحمة} أي: نعمة {منا} مفعول لأجله أي: وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه {وذكرى} أي: وتذكيراً بحاله {لأولي الألباب} أي: أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة الأحسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل:
*لكل شيء إذا فارقته عوض ... وما عن الله إن فارقت من عوض*
وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم كما مر وقوله تعالى:
{وخذ بيدك ضغثاً} معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وقوله سبحانه وتعالى:{فاضرب به ولا تحنث} يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل: رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ.
ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه صلى الله عليه وسلم «أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال صلى الله عليه وسلم خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة»{إنا وجدناه صابراً} أي: فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
فإن قيل: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه؟ أجيب بأوجه: أحدها: أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}(يوسف: ٨٦)
وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها: أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها: أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى: {نعم العبد} أي: أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى: مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك {إنه أواب} أي: رجاع إلى الله تعالى روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن قوله تعالى: {نعم العبد} تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: {نعم المولى ونعم النصير}(الأنفال: ٤٠)
والمراد: أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير.
القصة الرابعة: قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة