وقوله صلى الله عليه وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقوم فالقدرية في زمانه صلى الله عليه وسلم هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به صلى الله عليه وسلم فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري: هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة.
أما من الكتاب فقوله تعالى:
{إنا} أي: بمالنا من العظمة {كل شيء} من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها {خلقناه بقدر} أي: قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه.
وأمّا من السنة: فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء. وعن طاووس اليماني قال: أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى؛ قال: وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله: بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر؛ وزاد عبد الله خيره وشره» .
تنبيه:{كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى:{وما أمرنا} في كل شيء أردناه وإن عظم أمره {إلا واحدة} أي: فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى {كن} كما قال تعالى: {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}(النحل: ٤٠)
ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى:{كلمح بالبصر} واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر؛ وعن ابن عباس معناه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.
{ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا.
{وكل شيء فعلوه} قال الجلال المحلي: أي: العباد. وقال أكثر المفسرين: أي: الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره {في الزبر} أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق