من فاعل كفروا. وقوله تعالى:{وآياكم} عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أن تؤمنوا} أي: توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار {بالله} أي: الذي اختص بجميع صفات الكمال {ربكم} أي: المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان {إن كنتم خرجتم} أي: عن أوطانكم، وقوله تعالى:{جهاداً في سبيلي} أي: بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي: ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى:{تسرون} أي: توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد {إليهم بالمودّة} أي: بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل: ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري {وأنا} أي: والحال أني {أعلم} أي: من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون {بما أخفيتم وما أعلنتم} قال ابن عباس: بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي: فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة {ومن يفعله} أي: يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم {منكم} أي: في وقت من الأوقات {فقد ضلّ} أي: عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي: قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي: هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل:
*إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب*
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام.
{إن يثقفوكم} أي: يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {يكونوا لكم أعداء} أي: ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم {ويبسطون إليكم} أي: خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم {أيديهم} أي: بالضرب أن استطاعوا {وألسنتهم} أي: بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه {بالسوء} أي: بكل ما من شأنه أن يسوء {وودّوا} أي: تمنوا قبل هذا {لو تكفرون} لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال.