عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} . {ولم يخرجوكم من دياركم أن} أي: لا ينهاكم عن أن {تبروهم} بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة {وتقسطوا إليهم} أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي: وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية {إن الله} أي: الذي له الكمال كله {يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل.
{إنما ينهاكم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {عن الذين قاتلوكم} أي: جاهدوكم متعمدين لقتالكم {في الدين} أي: عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه {وأخرجوكم من دياركم} أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة {وظاهروا} أي: عاونوا غيرهم {على إخراجكم} وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى:{أن تولوهم} بدل اشتمال من الذين أي: تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف.
ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى:{ومن يتولهم} أي: يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم {فأولئك} أي: الذين أبعدوا عن العدل {هم الظالمون} أي: الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.
ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {إذا جاءكم المؤمنات} أي: بأنفسهن {مهاجرات} أي: من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية {فامتحنوهنّ} أي: بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ.
قيل: إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ {الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أعلم} أي: منكم ومن أنفسهنّ {بإيمانهنّ} هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس {فإن علمتموهنّ مؤمنات} أي: العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره {فلا ترجعوهنّ} أي: بوجه من الوجوه {إلى الكفار} وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس: لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها