فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً منهن لأنهن أمهات المؤمنين؟ أجيب: بأنه إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بالصفات الآتية مع الطاعة له صلى الله عليه وسلم خيراً، أو أن هذه على سبيل الفرض وهو عام في الدنيا والآخرة، فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً.
وإن قيل: بوجوده في خديجة لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً الغاية القصوى، ومريم أحسنت حين كانت من القانتين فذلك في الآخرة، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة. فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً لأن الله تعالى أمره أن يراجعها، لأنها صوامة قوامة.
ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى:{مسلمات} إلى أخره، وهو إما نعت، أو حال، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير: مسلمات يعني مخلصات، وقيل: مسلمات لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات {مؤمنات} أي: مصدقات بتوحيد الله تعالى، وقيل: مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، وقيل: مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات {قانتات} أي: مطيعات والقنوت الطاعة، وقيل: داعيات {تائبات} أي: راجعات من الهفوات والزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك، وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن {عابدات} أي: كثيرات العبادات لله تعالى، وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد {سائحات} قال ابن عباس: صائمات، وقال الحسن: مهاجرات، وقال ابن زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة، والسياحة الجولان في الأرض، وقال الفراء وغيره: سمي الصائم سائحاً لأن السائح لازاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب {ثيبات} جمع ثيب، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح {وأبكاراً} أي: عذارى جمع بكر، وهي ضد الثيب، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات.
فإن قيل: كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ أجيب: بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال.
ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بذلك {قوا أنفسكم} أي: اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات، وفي أدبه مع الخلق والخالق {وأهليكم} من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم {ناراً} بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص: «ما نحل والد ولداً