فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً كما تحذرون عنها جهراً فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
ولما قال تعالى:{إنه عليم بذات الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى: {ألا يعلم من خلق} أي: من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى: ألا يعلم السر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد، قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى: ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم ألا يعلم من خلق {وهو} أي: والحال أنه هو {اللطيف} الذي يعلم ما بثه في القلوب {الخبير} أي: البالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء.
وقال أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال:{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} .
ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبره فقال مستأنفاً:{هو} أي: وحده {الذي جعل لكم الأرض} على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها {ذلولاً} أي: مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل: ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل: لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وتبرد جداً في الشتاء.
تنبيه: في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم فخافوني فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ولو شئت خسفت بكم.
وقوله تعالى:{فامشوا} ، أي: الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً {في مناكبها} مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً وهذا أمر إباحة وفيه إظهار الامتنان وقيل: خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة: في مناكبها في جبالها وتذليلها أدل على