للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها.

وثالثها: أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.

فإن قيل: هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب: بأنه نوع آخر لوجوه: أولها: رفع. ثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها: ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.

وقوله تعالى: {إنّ} على إضمار القول أي: ويقال لهم إنّ {هذا كان لكم جزاء} أي: على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم {وكان} أي: على وجه الثبات {سعيكم مشكوراً} أي: لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.

ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك {القرآن} أي: الجامع لكل هدى {تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.

قال الرازي: والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية: تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له: إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.

{فاصبر لحكم ربك} أي: المحسن إليك. قال ابن عباس: اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل: اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة {ولا تطع منهم} أي: الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي: داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي: مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة: أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه

<<  <  ج: ص:  >  >>