للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الختان والأوجاع، ثم المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن والجيران، ثم الكبر والهرم، وضعف الركب والقدم، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين، وهمّ الدين، ووجع السنّ، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.

وقوله تعالى: {في كبد} ، أي: في وسط السماء. وقال مقاتل: في كبد، أي: في قوّة نزلت في أبي الأشدين، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل.

{أيحسب} ، أي: أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، قوله أبي الأشدين هكذا في النسخ بصيغة التثنية، وفي حاشية الجمل، والأشد هكذا بالإفراد في كثير من نسخ هذا الشرح، وكثير من عبارات المفسرين، وفي بعض نسخ هذا الشرح وكثير من من التفاسير الأشدين بصيغة التثنية فليحرّر اه. {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه {لن يقدر عليه} ، أي: خاصة {أحد} ، أي: من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل: نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.

{يقول} ، أي: يفتخر بقوّته وشدّته {أهلكت} ، أي: على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {مالاً لبداً} ، أي: كثيراً بعضه على بعض.

{أيحسب} ، أي: هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن} ، أي: أنه {لم يره أحد} قال سعيد بن جبير:، أي: أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي: إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى: أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.

وقرأ {أيحسب} في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى:

أي: بما لنا من القدرة التامّة {له عينين} يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر مايريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ماترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما.

{ولساناً} يترجم به عن ضمائره {وشفتين} يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة: نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي: وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول: «يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» .

{وهديناه} ، أي: أتيناه من العقل {النجدين} قال أكثر المفسرين: بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً} (الإنسان: ٣)

وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها

<<  <  ج: ص:  >  >>