فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {كفروا} بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل؟ { {
أجيب: بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى: {حتى} أي: إلى أن {تأتيهم البينة} متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
وقوله تعالى:{رسول} أي: عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي: سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له:{من الله} أي: الذي له الجلال والإكرام وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه: {ذو العرش المجيد فعال لما يريد}(البروج، الآيتان: ١٥ ـ ١٦)
فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي: لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى:{يتلو صحفاً} صفة الرسول، أو خبره والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي: القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة {مطهرة} أي: في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
{فيها} أي: تلك الصحف {كتب} أي: أحكام مكتوبة {قيمة} أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.
{وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب} أي: عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إلا من بعد جاءتهم البينة} أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث صلى الله عليه وسلم جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى:{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}(الشورى: ١٤)
. وقال تعالى:{وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}(البقرة: ٨٩)
وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم