للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.

{يسئلونك} يا محمد {ماذا أحل لهم} من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى: {يسئلونك} ولو قيل في الكلام: ماذا أحلّ لنا لكان جائزاً على حكاية الجملة كقولك: أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وماذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك: أي شيء أحلّ لكم منها؟ فقال تعالى: {قل} لهم {أحلّ لكم الطيبات} أي: ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم.

وقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} معطوف على الطيبات أي: أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، والهاء للمبالغة سميت؛ بذلك؛ لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد، ومنه قوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام، ٦٠) أي: كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالباً، وقوله تعالى: {مكلبين} حال من ضمير علمتم أي: حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ: «اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد، وقوله تعالى: {تعلمونهنّ} حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.

فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ أجيب: بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله {مما علمكم الله} أي: من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. {فكلوا مما أمسكن} أي: الجوارح مستقرّاً إمساكها {عليكم} أي: على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء: إذا أرسلت استرسلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين، وإن أكل منه فلا تأكل، منه إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون: لا يشترط مطلقاً وفي هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>