فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله:{قال إنك من المنظرين} لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}(الحجر، ٣٧ ـ ٣٨)
وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.
فإن قيل: لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ أجيب: بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
{قال} أي: إبليس {فبما أغويتني} أي: فبإغوائك لي والباء للقسم أي: أقسم بإغوائك وجوابه {لأقعدنّ لهم} أي: لبني آدم {صراطك المسقيم} أي: على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفاً والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي: فبسبب إغوائك أقسم.
{ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} أي: من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه، وقيل: لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش، وعنه إنه قال: من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها، لهم وعن أيمانهم أي: من قبل حسناتهم أي: فيبطؤهم، عنها، وعن شمائلهم من قبل سيآتهم أي: فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله: جلست عن يمينه وعن شقيق ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى}(طه، ٨٢) ، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}(هود، ٦) ، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ:{والعاقبة للمتقين}(القصص، ٨٣) ، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ:{وحيل بينهم وبين ما يشتهون}(سبأ، ٥٤)
{ولا تجد أكثرهم شاكرين} أي: مطيعين.
فإن قيل: كيف علم الخبيث ذلك؟ أجيب: بأنه إنما قال ذلك ظناً لقوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه}(سبأ، ٢٠)
لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّداً وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ الخير واحداً وهو الملك الملهم، وقيل: سمع ذلك من الملائكة.
{قال} الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه بسبب عصيانه ومخالفته {أخرج منها} أي: الجنة أو السماء كما مرّ فإنه لا ينبغي أن تسكن فيها {مذؤماً} أي: محقوراً ممقوتاً {مدحوراً} أي: مبعداً مطروداً عن الرحمة وقوله تعالى: {لمن تبعك منهم} أي: من الناس اللام فيه موطئة للقسم وجوابه {لأملأنّ جهنم منكم أجمعين} وهو سادّ مسدّ جواب الشرط وهو من تبعك أي: لأملأن جهنم منك بذريّتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب.
{ويا آدم} أي: وقلنا يا آدم {اسكن} فهذه القصة معطوفة على قوله تعالى: {قلنا للملائكة}