في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال:{وما بكم من نعمة فمن الله}(النحل، ٥٣) انتهى.
فإن قيل: بل هو موليه مطلقاً بغير وسط، أجيب: بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلاً ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير.
فأن قيل: لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب: بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف، قال البيضاوي: وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه، {رب العالمين} أي: مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم، إذ كل منها يطلق عليه عالم، يقال: عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى:{ارجع إلى ربك}(يوسف، ٥٠) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعاً له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه» ، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة وقيل: عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة، وإلى ما هو مشابه لعالم
الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.
فإن قيل: لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب: بأنّ فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.
{الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك، والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أوّلاً فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن ثم تبت عليك، فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك، فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى: اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره، قوله تعالى:{غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}(غافر، ٣) وقرأ عاصم والكسائيّ: مالك