من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها {واجنبني} ، أي: بعدني {وبنيّ أن} ، أي: عن أن {نعبد الأصنام} ، أي: اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله: {واجنبني} عن عبادة الأصنام؟ أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل: كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب: بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية:{فمن تبعني فإنه مني}(إبراهيم، ٣٦)
وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى:{إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}(هود، ٤٦) ، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى:{واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}(إبراهيم، ٣٥)
وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا: البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي: يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري: دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي: وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال:
{رب إنهن} ، أي: الأصنام {أضللن كثيراً من الناس} بعبادتهم لها.
تنبيه: اتفق كل الفرق على أن قوله: أضللن مجاز؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال: {فمن تبعني} ، أي: على التوحيد {فإنه مني} ، أي: فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني {ومن عصاني} ، أي: في غير الدين {فإنك غفور رحيم} وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى:{واتبع ملة إبراهيم}(النساء، ١٢٥)
وقيل: إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل: إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل: المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً.
تنبيه: حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور: الأوّل: طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو (رب اجعل هذا البلد آمناً) المطلوب الثاني: أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} المطلوب