مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله:{وما أنتم له} ، أي: لذلك الماء {بخازنين} ، أي: ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى:
{وإنا لنحن نحيي} ، أي: لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز {ونميت} ، أي: لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. {ونحن الوارثون} ، أي: الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى:
{ولقد علمنا المستقدمين منكم} وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره {ولقد علمنا المستأخرين} ، أي: الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس: أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياءز وقال عكرمة: المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن: المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل: المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» . تنبيه: في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما: أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
{وإنّ ربك هو يحشرهم} ، أي: المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى: {إنه حكيم} ، أي: باهر الحكمة متقن في أفعاله {عليم} وسع علمه كل شيء، ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى:
{ولقد خلقنا الإنسان} قال الرازي والمفسرون: أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليه السلام. ونقل