وهذا إنَّما هو في تفسير قوله: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ هناك ذكروا أن المتشابه: هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني: هو الكلام في شيئين متقابلين، كصفة الجنَّة وصفة النَّار، وذكر حال الأبرار ثم [١] حال الفجار، ونحو ذلك.
وأما [٢] ها هنا؛ فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه: هو [٣] الذي قدمنا [٤]، وهو الذي نص عليه محمَّد بن إسحاق بن يسار، ﵀، حيث قال: منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب، فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف، ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، ألا يُصْرَفْن إلى الباطل ولا [٥] يحرَّفْن عن الحق.
ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ﴾ أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ أي: إنَّما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسد، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأمَّا المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنَّه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا [٦] حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم [وروح منه][٧]، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيهِ﴾ وبقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ﴾ أي: تحريفه على ما يريدونه [٨]. وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن.
وقد قال الإِمام أحمد (٩): حدَّثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن
(٩) - مسند أحمد (٦/ ٤٨). وسنن ابن ماجة (١/ ١٨ - ١٩)، المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، حديث رقم (٤٧). وعبد الرَّزاق في تفسيره (١/ ١١٦). وابن حبان (١/ ٢٧٧ - الإحسان) حديث رقم (٧٦). والترمذي في سننه، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة آل عمران، حديث رقم (٢٩٩٧) =