للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ أي: في أول بادئ الرأي، [] [١] ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْقٍ، ولا خلق ولا رزق ولا حال، لما دخلتم في دينكم هذا ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي: فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.

هذا اعتراض الكافرين على نوح وأتباعه، وذلك [٢] دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لا شك فيه: أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء، ثم الواقع غالبًا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾، ولما سأل هرقل ملك الروم [أبا سفيان] [٣] صخر بن حرب عن صفات النبي، ، قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل (٤٣).

وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ ليس [٤] بمذمة ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي [٥]، ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق - والحالة هذه - لكل ذي زكاء وذكاء، بل [٦] لا يفكر هاهنا إلا عيي أو غبي، والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح. وقد جاء في الحديث أن رسول الله، ، قال (٤٤): " ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم" أي: ما تردد ولا تروى؛ لأنه رَأى أمرًا جليًّا عظيمًا واضحًا فبادر إليه وسارع. وقوله [٧]: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عُمْي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون، الأقلون الأرذلون، وفي الآخرة هم الأخسرون.

﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨)


(٤٣) - صحيح، تقدم [سورة الأنعام/ آية ٥٤]، [سورة يونس/ آية ١٦].
(٤٤) - أخرجه ابن هشام في "السيرة" (١/ ٢٦٧)، والبيهقي في "الدلائل" (٢/ ١٦٤)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (٣/ ٣١٠)، وذكره المصنف في "البداية والنهاية" (٣/ ٣٧) كلهم من طريق ابن إسحاق؛ قال حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله قال … فذكره هكذا مرسلًا، وفي هذا الباب ما أخرجه البخاري في صحيحه (٣٦٦١) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق … ".