للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأقوى دليل على ما ذهب إليه الجمهور من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو أن الشريعة قد نزلت عامة زماناً ومكاناً وأشخاصاً، (١) دلّ على ذلك نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: ٢٨]، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: ١٥٨]، وكونها هي الشريعة الخاتمة يؤكد ذلك. وما دامت الشريعة عامة فلا يعقل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها إلّا ما دلَّ دليل على خصوصيته فإنه يقصر على ما جاء خاصّاً فيه. وإنما أسباب النزول الخاصة -كما سبقت الإشارة- في أغلبها مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتنزيل بعض الأحكام ليكون ذلك أبلغ في التأثير والإفهام.

وقد استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة أبرزها احتجاج الصحابة رضوان الله عليهم بعموم تلك الألفاظ مع ورودها على أسباب خاصة من غير لجوء إلى القياس أو إلى أي دليل خارجي لتعدية الحكم من سبب النزول إلى ما يشبهه. (٢)

والخلاصة أن الفريقين متفقان على أن ما نزل من الأحكام بصيغة العموم فهو على عمومه ولو كان وارداً في سبب خاص، وإنما الخلاف في طريقة تعديّة الحكم: هل هو بعموم اللفظ مباشرة دون حاجة إلى دليل خارجي، أم بواسطة دليل آخر؟ وفي ذلك يقول ابن تيمية: "والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنَّها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعمّ ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معيَّن إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته". (٣)


(١) وفي ذلك يقول الشاطبي: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة؛ بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة". الموافقات، مج ١، ج ٢، ص ١٨٦.
(٢) انظر الزرقاني: مناهل العرفان، ج ١، ص ١٢٩؛ الجويني: البرهان، ج ١، ص ٢٥٥.
(٣) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج ١٣، ص ٣٣٩.

<<  <   >  >>