للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما يتبيَّن مما سبق أن النزاع في مسألة التعليل قضية كلامية في أساسها، جلبها المتكلمون معهم إلى ميدان الأصول. ولذلك نجدها لا تصمد كثيرًا في مجال الفقه وأصوله، حيث نجد الكلَّ يقول بالتعليل -باستثناء الظاهرية- لأنهم جميعاً يقولون بالقياس، والقياس مبناه على التعليل، فالقول بالقياس قولٌ بالتعليل.

ويبدو أن القول بتعليل الأحكام الشرعية شائع ومألوف بين الفقهاء إلى درجة أن ادعى فيه البعض الإجماع، ومن ذلك قوله الآمدي: "أئمة الفقه مجمعة أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود". (١) وقول القرطبي: "لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قُصِد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية". (٢)

وبغض النظر عن مدى صحة انعقاد هذا الإجماع، (٣) فإن هذا يدلّ على شيوع التعليل بين الفقهاء والأصوليين وتقرُّرِه، وأن ما شاع حوله من خلاف بين المتكلمين لا يكاد يوجد له أثر بينهم.

المطلب الثاني

تعليل العبادات

قد يقول قائل: ما دام هذا هو موقف الفقهاء والأصوليين من تعليل الأحكام، أَلا يكون هذا معارضاً لما تقرر عندهم من أن الأصل في العبادات عدم التعليل، والأصل في المعاملات التعليل. فكيف يكون الأصل في العبادات عدم التعليل مع القول بأن أحداً الله تعالى كلها -بما فيها العبادات- إنما شرعت لحِكَم ومقاصد، ظهر منها ما ظهر، وخفي منها ما خفي، ومع ملاحظة ما ورد في القرآن الكريم والسنة


(١) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج ٣، ص ٣١٦.
(٢) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج ٢، ص ٦٣ - ٦٤.
(٣) أنكر ابن السبكي هذا الإجماع بقوله: "وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ... وهذه الدعوى باطلة، لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام، لا بطريق الوجوب ولا الجواز". (انظر الإبهاج في شرح المنهاج، ج ٣، ص ٦٢. ويقصد بالمتكلمين هنا الأشاعرة. وقد ذهب البعض إلى أن هذا الإجماع خاص بالفقهاء، ولا دخل للمتكلمين فيه، وذلك قول الآمدي: "أئمة الفقه مجمعة أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود". الأحكام في أصول الأحكام، ج ٣، ص ٣١٦.

<<  <   >  >>