الفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات
لمّا كانت العبادات شعائر يُقصَد بها تعظيم الله تعالى والتعبّد له، كان له جلَّ شأنه أن يختار من الشعائر ما يشاء لِيَتَعَبَّدَنَا به، ولم يكن لأحد الحقُّ في أن ينشئ شيئاً من العبادات ليتقرب بها إلى الله تعالى، لأنه لا أحد يعلم الحِكْمة من اختياره جلّ شأنه عبادات بعينها دون غيرها، ومن ثَمّ لا يمكن أن يُعبَد إلّا بما شرع.
أما المعاملات فهي الوسائل والتدابير التي يتخذها البشر لتسيير شؤونهم الحياتية، وتلبية رغباتهم واحتياجاتهم الفردية والجماعية، ولذلك تكون واسعة ومتشعبة سعة وتشعب حاجات الفرد والمجتمع، وتتجدد بتجدد مطالب الناس الفردية والجماعية، وتتطور بتطورها، وتتسع باتساعها. ولما كان الإنسان -بما وهبه الله تعالى من وسائل الإدراك والتفكير- أهلاً للتصرف فيها إنشاءً وتطويراً فقد أَوْ كَلَهَا الله تعالى إليه، واكتفت الشرائع في ذلك بتوجيه الإنسان وتقويمه.
وبناءً على ما سبق كانت القاعدة: أن الشريعة تأتي مُنْشِئَةً في العبادات، في حين تأتي ضابطةً ومقنِّنةً للمعاملات.
وصفة الإنشاءِ الأمرُ (إيجاباً وندباً)، أما صفةُ الضبطِ والتقنينِ فهي النهيُ (تحريماً وكراهةً)، ولذلك نجد الشعائر التعبديّة إما واجبة أو مستحبة، في حين لا نجد في المعاملات واجبات إلّا على الجملة، أي أن تكون المعاملات واجبة بالكلية من حيث يجب القيام بها لإقامة المجتمع وحفظه، ولا تكون واجبة على الأعيان إلّا في حالات الضرورة حيث يؤدي إهمالها إلى إهدار كُلِّيٍّ من الكليات الخمس، وإنما نجد أكثر الأحكام الشرعية الواردة في المعاملات من باب النواهي، سواء كان ذلك على وجه التحريم أو الكراهة. فإذا تأملت -مثلاً- أحكام البيوع لا تجد شيئاً اسمه البيوع الواجبة أو المستحبة، في حين تجد البيوع المحرمة، والمكروهة، والفاسدة، والباطلة؛ ذلك أن المعاملات بما فيها من نفع عاجل للإنسان، وبما فيها من إشباع لشهوات النفس ورغباتها تجعل الإنسان ميَّالاً إلى القيام بها والتوسع فيها بما قد يدفعه إلى