للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفَصْلِ الثَّالِث

الاستقراء عند الإمام الشاطبي

تَمْهِيد

لم يكن الاستقراء غائبًا غيابًا كاملًا عن مباحث الأصول عند الأصوليين المتقدمين على الشاطبي كما سبقت الإشارة، لكنهم لم يُعنوا به العناية الكافية، ولم يوظفوه توظيفًا كاملًا بوصفه منهجًا للإستدلال على القواعد والمسائل الأصولية. وربما كان ذلك ناتجًا عن التأثر بنظرة المنطق الأرسطي للإستقراء خاصة الناقص منه، من أنه -تبعًا للأسس المثطقية التي بُنِيَ عليها وفُسِّرَ بها- لا يفيد كثيرًا بحكم أنه لا يوصل إلى نتائج قطعية. ويبدو هذا جليًّا في موقف أبي حامد الغزالي -الذي يعدّه البعض أول من أدخل المنطق في علم أصول الفقه (١) - حيث قلَّل من أهمية الاستقراء في كونه دليلًا تُستنبط به القواعد الكلية أو الفروع الفقهية من جهتين:

إحداهما: أنه حتى وإنكان استقراءً تامًّا، فإنه لا يفيد نتيجَتَهُ إلّا بإرجاعه إلى الضرب الأول من النمط الأول من البرهان، وهو صياغته على شكل مقدمتين يُشترط في أولاهما أن تكون مثبتة، ويُشترط في الثانية أن تكون عامة كلية، وتشترك هاتان المقدمتان في علة تكون حكمًا في إحداهما ومحكومة في الأخرى. (٢) ووجه التقليل من أهميته هنا جعلُه لا يفيد نتيجة يقينية إلَّا بإرجاعه إلى البرهان.

والثانية: وصفه للإستقراء الناقص بالاختلال، وأنه قليل الفائدة، والحكم عليه


(١) القول بأن الغزالي أول من أدخل علم النطلق في علم أصول الفقه مبي على أنه أول من صدَّرَ كتابًا في أصول الفقه -وهو كتابه المستصفى من علم الأصول- بخلاصة لأهم نظريتين في المنطق القديم، وهما: نظرية الحدّ، ونظرية البرهان. ومع أنه صرح أن هذه المقدمات المظقية ليست من مباحث علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، إلّا أنه جعلها أساس كل علم، ومن لا يحيط بها "فلا ثقة له بعلومه أصلا". المستصفى، ج ١، ص ٢١، وانظر فيما أورده من مقدمات منطقية ج ١، ص ٢١ - ٥٨ من الكتاب نفسه.
(٢) مثَّل الغزالي لهذا النظم من البرهان في الفقهيات بقوله: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، إذًا كل نبيذ حرام. انظر في تفصيل هذا النظم من البرهان: الغزالي: المستصفى، ج ١، ص ٤٤ - ٤٦.

<<  <   >  >>