للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هذا الباب أيضاً ما يقتضيه مقام التأديب من ترغيب وترهيب بإطلاق الأمر في الترغيب في بعض خصال الخير، وإطلاق النهي عن الإستمتاع ببعض متع الحياة الدُّنيا إلى درجة قد يبدو فيها شيء من المثالية التي يعسر على عامة الناس الإلتزام بها. والحقيقة أن أصول الشريعة جاءت بالتوسط والإعتدال، وما يبدو أحيانا من مبالغة في الترغيب أو الترهيب فإنَّما يكون باعتبار أحوال الناس المختلفة في ميلهم عن سَنَنِ الإعتدال. فمن غلب عليه الإنحلال في الدين جيء له بالتشديد في الترهيب والزجر، ومن غلب عليه الخوف جيء له بالمبالغة في الترجية والترغيب ليعود الكلّ إلى الإعتدال، وفي ذلك يقوله الإمام الشاطبي: "فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط. فإن رأيت ميلاً جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين. وطرف التخفيف- وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الإعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه". (١)

كما أن الأوامر والنواهي المطلقة جاءت كذلك لتناسب القدرات المختلفة للناس، فيحملها كلٌّ على حسب قدراته وطاقته، وقد وضح ذلك الشاطبي بقوله: " ... فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن أشياءَ وأمر بأشياءَ، وأطلق القول فيها إطلاقاً ليحملها المكلَّف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، وقد تقدم أن المكلَّف جُعِلَ لهْ النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومُنَّتُه، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجرداً من الإلتفات إلى المعاني". (٢)

وقد زلّت بسبب خفاء هذا المقام الدقيق بعض الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، مثل الخوارج، فأخذوا هذه النصوص على ظاهرها كفروا مرتكب الكبيرة.


(١) الشاطبي: الموافقات، مج ١، ج ٢، ص ١٢٨.
(٢) الشاطبي: الموافقات، مج ٢، ج ٣، ص ١١٤.

<<  <   >  >>