من حِكَم وأسرار، فإن ذلك يبقى لمجرد تعرف على ما ينتج عن الصلاة من فوائد، وما تحققه من مقاصد، ولا يمكن اعتبار تلك الحِكَم والأسرار "العلل القياسية" التي من أجلها شرعت الصلاة. فمع معرفة تلك الحِكَم والأسرار -التي هي في حقيقتها ثمرات الإلتزام بتلك العبادات- يبقى السؤال: ما علة تخصيص هذا النوع من العبادات بالذات وبهذه الكيفيات المحددة لتحقيق هذه الأسرار والحِكَم؟ ولماذا لم يُشرع غيرها وبكيفيات غير الكيفيات المعروفة؟ وهذه هي العلة القياسية التي إذا استطعنا أن نعرفها، نستطيع بعد ذلك أن نقيس عليها غيرها من العبادات. وعدم معرفة مثل هذه العلة هو المراد بكون مثل هذا الحِكَم تعبديّا توقيفيّا، يوقف فيه عند ما جاء من عند الشارع من غير استبدال، ولا زيادة، ولا نقصان. وكذلك الأمر في الحدود والكفارات، فعلتها العامة (الحِكْمة من شرعها) الزجر، ولكن العلة الخاصة في تقدير حدّ الزنا للبكر -مثلاً- بمائة جلدة، وحدّ القذف بثمانين، والصيام في بعض الكفارات بثلاثة أيام، وفي بعضها بشهرين متتابعين، وغير ذلك من الحدود والكفارات غير معلومة. وعلى ذلك يمكن القول إن هذه العبادات والحدود والكفارات معللة من قِبَل الوجه الأول، لكنها غير معللة من قِبَل الوجه الثاني ومن هنا جاء القول بعدم جريان القياس فيها.
والخلاصة أن العبادات محددة النوع والكيفية، وذلك التحديد غير معلل بالنسبة لنا. أما كونها إنما شُرِعت لحِكَم ومقاصد فهو أمر غير مشكوك فيه؛ لأن ذلك فرع كمال الذات الإلهية وتنزهها عن العبث. أما المعاملات فإن الشارع اكتفى فيها بوضع ضوابط ومبادئ تحدد دائرة الحرام التي لا ينبغي دخولها، وما وراء ذلك فهو مباح وبابه مفتوح، وللناس أن يخترعوا من أنواع وكيفيات المعاملات ما يخدم المقاصد والعلل المشروعة.