للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأولى: أن الباعث على المبحث عن المعارض يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في ذهن المجتهد -وقت النظر في الدليل الذي بين يديه- من كونه مناسبًا لمقاصد الشارع أو غير مناسب، فإذا تبينت مناسبتُه لمقاصد الشارع ضعف احتمال وجود معارض قوي له، أما إذا خفيت المناسبة، أو بَانَ عدم مناسبته لمقاصد الشارع، فإن احتمال وجود المعارض يقوى، ومن ثَمَّ يكون الداعي إلى المبحث عنه قويا.

الثانية: مدى اطمئنان الفقيه بعد المبحث عن المعارض: فكّلما كانت مناسبة الدليل لمقاصد الشريعة أقوى كان اطمئنان الفقيه إلى عدم وجود المعارض -بعد استنفاذ الوسع في المبحث وعدم العثور عليه- أقوى، وبالعكس.

الثالثة: الترجيح بين الأدلّة المتعارضة استنادًا إلى المقاصد، فيرجح الدليل المحقق للمقاصد، أو الأقرب إلى تحقيقها على الدليل الذي لا يلائمها أصلاً، أو يقصر عن تحقيقها.

أمثلة:

ومن أمثلة المبحث عن المعارض حادثة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر - رضي الله عنهما - ثلاثًا، فلما لم يؤذن له رجع، فبعث عمر وراءه، فلما حضر عتب عليه انصرافه فأخبره أبو موسى بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. ولكن لما كان في هذا نوعُ معارضةٍ للقصد من الإستئذان وهو إعلام صاحب البيت بالقدوم وطلب الإذن في الدخول، وذلك لا يستدعي التحديد بعدد معين، كما أن فيه نوعَ معارضةٍ لأصل الإستئذان في قوله تعالى: {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: ٢٨]، الذي لم يُقيد بعدد محدد، كان شكُّ عمر قويًّا في صحة صدور هذا الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي صلوحية كونه معارضًا لهذا الأصل، ولذلك طالبه بالبيّنة، (١) وشدد عليه في ذلك. ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كُنْتُ فيِ مَجْلِسٍ مِن مَجَالِسِ الأَنْصَار إِذْ جَاءَ أبُو مُوسى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ, فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَر ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن لي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن ليِ فَرَجَعْتُ، وقَالَ رَسُولُ الله


(١) انظر هذا التوجه في: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص ١٢١.

<<  <   >  >>