ولَمَّا اتسعت رقعة الإِسلام وبدأ يظهر فساد في اللسان وضعف في القريحة، ظهرت الحاجة إلى ضبط قواعد فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، وهو الذي جُمِع بعد ذلك فيما اصطُلِح عليه بعلم أصول الفقه، وكان متضمنًا لأهم الأسس والقواعد التي تُدْرَكُ بها مقاصد الشارع من خطابه. وقد أعطى ذلك مع ما شهدته تلك الفترة من ازدهار في حركة التدوين دفعًا قويًّا للعلوم الشرعية لتعيش بعد ذلك قرونًا من الإزدهار نَبَغَ فيها عدد كبير من العلماء في شتى العلوم.
وجاء عصر الجمود الذي اتّسم بفساد في اللسان، وضعف في الهمم، وقلة من تأهّل للاجتهاد، وفشوّ التقليد المشوب بالتعصب المذهبي، وكان من مساوئ ذلك شيوع الحيل الفقهية التي كانت في أصلها مخارج شرعية، وتلك علامة ظاهرة على الإنحراف عن مقاصد الشارع من أحكامه وغياب تصور واضح للكليات الشرعية، وفي ذلك يقول محمد الطاهر بن عاشور:"كان إهمال المقاصد سببًا في جمودٍ كبيرٍ للفقهاء ومعولًا لنقض أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل، التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومُقِلّ". (١) وقد حاولت حركةُ التقعيد الفقهي تدارك هذا النقص بوضع قواعد فقهية عامة تضبط الجزئيات وترجعها إلى أصولها الكلية، ومع نجاحها إلى حدٍّ ما فإنها
لم تكن كافية للتخلص من ذلك.
وكما كان الإستحسان مخرجًا مما قد ينتج عن الإلتزام الصوري بالقياس من إخراج لبعض الأحكام عن القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة؛ إذْ هو في جوهره عدول عن قياس ظاهر توفرت فيه كلّ شروط القياس لأن نتيجته قد تؤدي إلى مخالفة قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، فقد جاء إبراز مقاصد الشريعة وإفرادها بالتأليف للتخفيف من غلواء التقليد والتعصب المذهبي والإهتمام بالجزئيات على حساب الكليات ليتمّ الرجوع بالفقه إلى ما كان عليه في زمان الصحابة والتابعين وكبار الأئمة. وقد كان من رواد هذه الحركة الجويني، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبد السلام، والقرافي لِتُتَوَّجَ تلك الجهود على يد
(١) ابن عاشور، محمد الطاهر: أليس الصبح بقريب، (تونس: الشركة التونسية لفنون الرسم، ط ٢، ١٩٨٨ م)، ص ٢٠٠.