والحديث عن موضوع المقاصد الشرعية يطرح قضية في غاية الأهمية في فهم نصوص الشريعة، هي أهميّة الإعتماد على الكلّيّات الشرعيّة وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، والتعامل مع النصوص الشرعية بوصفها وحدة متكاملة يكمل بعضُها بعضًا ويعضِده، وهو نوع من أنواع ردِّ المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات. فكليات الشريعة -وهي مقاصدها العامة- هي الأصول القطعية الحاكمة لكلّ اجتهاد وتفكير إسلامي.
ولَمّا كان الكلام في مقاصد الشريعة كلامًا فضفاضًا قد يحمله البعض على غير وجهه الصحيح، فيُدْخِل في مقاصد الشريعة ما ليس منها ويخرج منها ما هو من صميمها، جاءت أهمية الكتابة في بيان المسالك والطرق التي يمكن بها التعرّف على تلك المقاصد، وضبطها حتى لا يتحوّل الإحتجاج بمقاصد الشريعة إلى ثغرة يدخل منها خصوم الإِسلام لتدميره باسمه.
وقد كانت هذه الأهمية التي تكتسبها مقاصد الشريعة هي التي دفعت الباحث إلى اختيار هذا الموضوع، فضلاً عن أنه -حسب اطلاع الباحث- لم يُفْرد إلى الآن ببحث أكاديمي متكامل يتناول جميع جوانبه بالبحث والتحليل، ولم يتعرض له بالبحث المستقلّ سوى الشاطبي في الموافقات، ومحمد الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة الإِسلامية، إلّا أنه كان تناولًا موجزًا، وهو موضوع يحتاج إلى كثير من البحوث والدراسات حتى يمكن تحديد معالمه وضوابطه والوصول به إلى مرحلة النضج.
الدراسات السابقة:
لم يكن الحديث عن المقاصد الشرعية وسبل التعرف عليها غائبًا عن علماء الصدر الأول (١)، ولكن أوّل من أفرد هذه المسالك بمبحث مستقلّ في مؤلفاته هو
(١) انظر في ذلك مثلًا ما ذكره أبو حامد الغزالي في باب الإستصلاح من أن الطرق التي تعرف بها مقاصد الشرع هي الكتاب والسنة والإجماع. انظر الغزالي، أبا حامد: المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو، (بيروت: دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي، ط ١, ١٤١٨ هـ/ ١٩٩٧ م)، ج ١، ص ٢٢٢، وما ذكره العز ابن عبد السلام من أن مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها تعرف بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستدلال الصحيح والعقل. انظر ابن عبد السلام، عز الدين بن عبد العزيز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (بيروت: مؤسسة الريان، ١٤١٠ هـ/ ١٩٩٠ م)، ج ١، ص ١٠.