ونشأتُ إلى جانبها على أحسن ما تكون عليه بنت بارّة، تطيع والدتها وتحافظ على هناءتها وتسرع في تلبية أمرها، ولبثنا على ذلك حقبة من الدهر حتى قيل لن يتفرَّقا، ثم كان اليوم الذي لست أنساه، فما راعنا إلا جنس من الوحش من أشدّها وأضراها، ما رأيته من قبل ولا سمعت به ولا هو بالذئب ولا هو بالضبع، فإن الذئب لا يعدو على الفريسة إلا إذا عضه الجوع بنابه ثم لا يقرب منا معشر الجمادات ولا يمسنا بسوء، أما هذا الوحش الضاري (الذي علمت بعدُ أنه يسمّى الإنسان) فيفترس جائعاً وشبعانَ، ويفترس كل شيء بأنياب من حديد وفولاذ وبارود ورصاص، يقضم بها الصخر ويشرب بها البحر، ويأكل بها أخاه الإنسان.
أقول: جاءنا رجال بأيديهم المعاول، فنزلوا بها علينا قطعاً قطعاً وكسراً كسراً، فقُتلت أمي المسكينة مع من قتل وحُملتُ أنا أسيرة، فما زالوا يجرّبون بي الوسائل ويسلكون معي سبيل اللين وسبيل الشدة، يسقونني الماء ويعرضونني على النار، حتى لنت لهم وخرجت من شدتي وعصبّيتي، فأذابوني وأخرجوني شيئاً آخر أنكرت معه نفسي وأصلي، وقالوا لي: أنت اليوم ورقة من أمّة الورق ولست قِشْرة من أمة القِشْر! وهذا دأبهم أبداً إذا غلبوا أمة ضعيفة، لا ينفكّون يزينون لها جديدهم ويزهّدونها في قديمها ويغرسون ذلك في قلوب ناشئتها وصغارها، حتى إذا آمنوا به واستيقنته أنفسهم سلخوهم من أصلهم وأخرجوهم من جلودهم وعادوا بهم أمة من الشياطين، لا هم منها ولا هي منهم، ولكنهم يفكرون برؤوسها ويمشون بأقدامها.