من المعلوم أن كثيراً من الكافرين والمشركين الضالين، والمقصرين في عبادة الله، والمنحرفين عن منهج الله، قد وجدوا مجالاً للاحتجاج به على كفرهم وفسادهم وتقصيرهم، وتوهموا التعارض بين الشرع -المقتضي للتكليف ثم الحساب والجزاء- والقدر المقتضي لكمال ربوبيته تعالى ونفوذ مشيئته وكمال قدرته في خلقه، ولذلك ورد في أقوال العلماء ما يرد على هؤلاء جميعاً ويدحض حججهم كلها، ومن ذلك ما يلي:
١ - أنه قد علم بالاضطرار أن الاحتجاج بالقدر حجة باطلة وداحضة باتفاق كل ذي عقل، ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا: أن الواحد من هؤلاء إما يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، فحينئذ يلزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه، ويأخذ ماله، ويفسد حريمه، ويضرب عنقه، ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعاً كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات، وترك الواجبات، لزمهم ألا يذموا أحداً، ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحداً فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع.
وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات، ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم، وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط، وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم.