الْخَمِيسِ همَّ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا، فَقَالَ عُمَرُ: ((مَالَهُ أَهَجَر؟)) (١) فَشَكَّ عُمَرُ هَلْ هَذَا الْقَوْلُ مَنْ هَجْر الْحُمَّى، أَوْ هُوَ مِمَّا يَقُولُ عَلَى عَادَتِهِ. فَخَافَ عُمَرُ أَنَّ يَكُونَ مِنْ هَجْر الحمى، فكان هَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى عُمَرَ، كَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ مَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ أَنْكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَاتُوا كِتَابًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْتُوا بِكِتَابٍ. فَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْكِتَابَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّهُمْ يَشُكُّونَ: هَلْ أَمْلَاهُ مَعَ تَغَيُّرِهِ بِالْمَرَضِ؟ أَمْ مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْ ذَلِكَ؟ فَلَا يَرْفَعُ النِّزَاعَ. فَتَرَكَهُ.
وَلَمْ تَكُنْ كِتَابَةُ الْكِتَابِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُ أَوْ يُبَلِّغَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَرَكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مِمَّا رَآهُ مَصْلَحَةً لدفع النزاع في خلافة أبي بكر.
وَمِنْ جَهْلِ الرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ كَانَ كِتَابُهُ بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بوجهٍ مِنَ الوجوه. ولا في شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ أَنَّهُ جَعَلَ عَلِيًّا خَلِيفَةً. كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ يَدَّعُونَ مَعَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ نَصًّا جَلِيًّا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَغْنَى عَنِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ لَا يُطِيعُونَهُ فَهُمْ أَيْضًا لَا يُطِيعُونَ الْكِتَابَ. فَأَيُّ فَائِدَةٍ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ لَوْ كان كما زعموا؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((الْخِلَافُ الثَّانِي: الْوَاقِعُ فِي مَرَضِهِ: أَنَّهُ قَالَ: جهِّزوا جَيْشَ أُسَامَةَ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. فَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ عَلَيْنَا امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَأُسَامَةُ قَدْ بَرَزَ، وَقَالَ قَوْمٌ: قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَلَا يَسَعُ قُلُوبُنَا الْمُفَارَقَةَ)) .
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّقْلِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ: ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تخلَّف عَنْهُ)) وَلَا نُقل هَذَا بِإِسْنَادٍ ثَبَتَ، بَلْ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَلَا امْتَنَعَ أحدٌ مِنْ أَصْحَابِ أُسَامَةَ مِنَ
الْخُرُوجِ مَعَهُ لَوْ خَرَجَ، بَلْ كَانَ أسامة هُوَ الَّذِي تَوَقَّفَ فِي الْخُرُوجِ، لَمَّا خَافَ أَنْ يَمُوتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كَيْفَ أَذْهَبُ وَأَنْتَ هَكَذَا، أَسْأَلُ عَنْكَ الرُّكْبَانَ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُقَامِ. وَلَوْ عَزَمَ عَلَى أُسَامَةَ فِي الذَّهَابِ لَأَطَاعَهُ، وَلَوْ ذَهَبَ أُسَامَةُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَقَدْ ذَهَبُوا جَمِيعُهُمْ مَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ بغير إذنه.
(١) انظر البخاري ج٧ ص ١١٩ ومسلم ج٤ ص ١٨٥٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute