فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم، فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء.
وأما في الإنذار والتخويف -كهذه الآية-، ففيه -أيضًا- أعظم نعمة على العبد؛ لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة من أعظم نعم اللَّه عليه.
ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى، وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها، فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره عن الوقوع فيها، أن هذا يكون يدًا له عنده وإحسانًا يجازيه عليه جزاءً أكبر الإنعام؟
وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول؛ لأنه قد تقرر في علم الأصول: أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس، فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد؛ لأن في التأسيس زيادة معنى ليس في التوكيد.
وعلى هذا القول، فتكرير {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكورة قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار، وقد عرفت أن كلها من آلاء اللَّه.
فالمذكورة بعد نعمة كالمذكورة بعد قوله:{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} الآية [الرحمن/ ٢٤]، وبعد قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)} الآية [الرحمن/ ٢٢]؛ لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء اللَّه كما هو ضروري.