قال مقيد هذه الرحلة عفا اللَّه عنه: إن القول بعدم صحتها له شاهد من القرآن العظيم في سورة النجم نفسها، وشهادته لعدم صحتها واضحة، وهو أن قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، الذي يقول القائل لصحة القصة: إن الشيطان ألقى لعده ما ألقى، قرأ النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بعد في تلك اللحظة في الكلمات التي تليه من سورة النجم قوله تعالى:{سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم/ ٢٣] فهذا يتضمن منتهى ذم الغرانيق التي هي كناية عن الأصنام، إذ لا ذمَّ أعظم من جعلها أسماء بلا مسميات، وجعلها باطلًا ما أنزل اللَّه به من سلطان.
فلو فرضنا أن الشيطان ألقى على لسانه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تلك الغرانيق العلى بعد قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)}، وفرح المشركون بأنه ذكر آلهتهم بخير، ثم قال النبي في تلك اللحظة:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، وذم الأصنام بذلك غاية الذم، وأبطل شفاعتها غاية الإبطال، فكيف يعقل بعد هذا سجود المشركين وسبُّ أصنامهم هو الأخير، والعبرة بالأخير.
ويستأنس بقوله أيضا بعد ذلك بقليلٍ في الملائكة: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦)} [النجم/ ٢٦]؛ لأن إبطال شفاعة الملائكة إلا بإذن اللَّه معلومٌ منه عند الكفار بالأحروية إبطال شفاعة الأصنام المزعومة.