(٢) الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تتكيف في التاريخ باعتبار مدلولها العملي، والعبرة دائما بسيرة المرء وعمله. ومعاوية قد ولي الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن علي له، فكان في الحالتين قَوَّاما بالعدل، محسنا إلى الناس من كل الطبقات، يكرم أهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم، ويسع بحلمه جهل الجاهلين فيعالج بذلك نقائصهم، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان. يؤمهم في صلواتهم ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم ويقودهم في حروبهم. وفي منهاج السنة ٣: ١٨٥ والمنتقى منه ص ٣٨٩ قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام " ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا " يعني معاوية. وقد رأيت في ص ٢٠٥ قول الأعمش للذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله. " كيف لو أدركتم معاوية؟ " قالوا في حلمه؟ قال: " لا والله، بل في عدله ". وقد بلغ من استقامته على جادة الإسلام أن قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وأبي إسحاق السبيعي - وكلهم من الأئمة الأعلام -: كان معاوية هو المهدي (انظر ص ٢٠٥) . والذي يتتبع سيرة معاوية في حكمه يرى أن حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدل والتراحم والتآسي، لم يخير بين الطيب والأطيب إلا اختار الأطيب على الطيب. فإذا كان هذا المسلك في أربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضوه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة، ومن سماه ملكا لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم، كنا أيام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون فيه موضوع سيرة معاوية وخلافته. وكان ذلك في أيام السلطان عبد الحميد. فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل - وكان شيعيا - فقال: " أنتم تسمون سلطاننا خليفة، وأنا أخوكم الشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة وأصدق عملا بالشرع المحمدي من خليفتنا، فكيف بأبيه معاوية ". على أن معاوية كان يقول عن نفسه - فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب -: " أنا أول الملوك وآخر خليفة ". وتقدم في ص ٧٧ حديث معمر عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ". وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتأثيره في أنظمة الحكم، بل إن معاوية نفسه ذكر ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم، فاستنكر عمر ذلك، واعتذر له معاوية بقوله: إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ونرهبهم به ". فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: " ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين "، فقال عمر: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه " (البداية والنهاية ٨: ١٢٤ - ١٢٥) ، وسيرة عمر التي حاول معاوية أن يسير عليها سنتين كانت المثل الأعلى في بيته، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها. روى ابن أبي الدنيا عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري عن بكير بن الأشج المخزومي المدني ثم المصري أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت؟ قال: كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بني، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر (ابن كثير ٨: ٢٢٩) . والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم: إنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين. روى الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص ١٧٢ طبع مكة) عن أبي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع. وأخرج ابن كثير (٨: ١٣٤) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد (وهو من شيوخ الإمام الأوزاعي) قال: رأيت معاوية في سوق دمشق، وهو مردف وراءه وصيفا وعليه قميص مرقوع الجيب، يسير في أسواق دمشق، وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بها، فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها. روى الدارقطني عن محمد بن يحيي بن غسان أن القائد الشهير الضحاك بن قيس الفهري قدم المدينة، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية، فرآه أبو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابيا من عامة الناس، حتى رضي أبو الحسن البراد أن يدفع له ثلاثمائة دينار. فانطلق به الضحاك بن قيس إلي بيت حويطب بن عبد العزى فلبس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد ذلك البرد بلا ثمن وقال له " قبيح بالرجل أن يبيع عطافه، فخذه فالبسه " فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول ما أصابه (ابن عساكر ٧: ص ٦) وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التي كان أعداؤه وأعداء الإسلام يصورونه بها، فمن شاء بعد هذا أن يسمي معاوية خليفة وأميرا للمؤمنين، فإن سليمان بن مهران الأعمش - وهو من الأئمة الأعلام الحفاظ، وكان يسمى " المصحف " لصدقه - كاد يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله. ومن لم يملأ معاوية عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب، فإن معاوية مضى إلى الله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح عمله، وكان وهو في دنيانا لا يبالي أن يلقب بالخليفة أو الملك، وإنه في آخرته لأكثر زهدا بما كان يزهد به في دنياه.