للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة على أهل المدينة - وقد كانت تقدمت - فدعا مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، نقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقوله لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعى إليه معاوية وسأله البيعة، فقال: ومثلي يبايع هنا؟ ارق المنبر، وأنا [أبايع] مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر. فقال [ابن الزبير] : فإنك لهنالك يا ابن الزرقاء؟ (واستبّا) . فقال الوليد: اخرجا عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثلهم لذهبت إليهم. فهذا ما صح.

وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين (١)


(١) أول من كتب إليه من شيوخ شيعته - على ما رواه مؤرخهم لوط بن يحيى - سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر، وأرسلوا كتابهم مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، فبلغا حسينا بمكة في عاشر رمضان سنة ٦٠، وبعد يومين سرحوا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة السلولي بثلاث وخمسين صحيفة، وبعد يومين آخرين سرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي (وفي الطبري ٦: ١٩٧ نصوص بعض رسائلهم وأسماء بعض أصحابها) وهي تدور على أنهم لا يجتمعون مع أميرهم النعمان بن بشير في جمعة، ويدعون الحسين إليهم حتى إذا أقبل طردوا أميرهم وألحقوه بالشام، ويقولون في بعضها: " أينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند " فأرسل الحسين إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليرى إن كانوا مستوثقين مجتمعين ليقدم هو عليهم بعد ذلك. وضل مسلم بن عقيل في الطريق ومات من معه من العطش، فكتب إلى الحسين يستعفيه من هذه المهمة، فأجابه: خشيت ألا يكون حملك على الاستعفاء إلا الجبن. فمضى مسلم حتى بلغ الكوفة، وأعطاه البيعة للحسين اثنا عشر ألفا منهم، وشعر أمير الكوفة النعمان بن بشير بحركاتهم فخطب فيهم ينهاهم عن الفتنة والفرقة، وقال لهم: إني لا أقاتل إلا من قاتلني، ولا آخذ بالظنة والتهمة، فإن أبديتم لي صفحتكم ونكثتم بيعتكم لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي. وعلم يزيد أن النعمان بن بشير حليم ناسك لا يصلح في مقاومة مثل هذه الحركة، فكتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة أنه قد ضم إليه الكوفة أيضا، وأمره أن يأتي الكوفة وأن يطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى يثقفه فيوثقه فيقتله أو ينفيه. فاستخلف عبيد الله أخاه على البصرة، وأقبل إلى الكوفة فاتصل برؤسائها وقبض على أزمة الحال، فما لبث مسلم بن عقيل أن رأى مبايعيه الاثني عشر ألفا كالهباء، ورأى نفسه وحيدا طريدا، ثم قبض عليه وقتل. وكان الحسين قد جاءته قبل ذلك رسائل مسلم بن عقيل بأن اثني عشر ألفا بايعوه على الموت، فخرج عقب موسم الحج يريد الكوفة، ولم يشجعه على الخروج إلا ابن الزبير لأنه عرف أن أهل الحجاز لا يتابعونه ما دام الحسين معهم، فصار الحسين أثقل خلق الله على ابن الزبير (الطبري ٦: ١٩٦ - ١٩٧ وانظر ٦: ٢١٦ و٢١٧) . أما المشفقون على الحسين من هذا الخروج المشئوم فهم جميع أحبائه وذوي قرابته والناصحين له والمتحرين سنة الإسلام في مثل هذا الموقف، كل هؤلاء نهوه عن مسيره، وحذروه من عواقبه، وفي طليعتهم أخوه محمد بن الحنفية (الطبري ٦: ١٩٠ - ١٩١) ، (وابن عم أبيه حبر الأمة عبد الله بن العباس الطبري ٦: ٢١٦ - ٢١٧) وابن عمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (٢: ٢١٩) ، وقد بلغ الأمر بعبد الله بن جعفر أن حمل والي يزيد على مكة - وهو عمر بن سعيد بن العاص - على أن يكتب للحسين كتاب الأمان ويمنيه فيه البر والصلة ويسأله الرجوع، فأجابه والي مكة إلى كل ما طلب وقال له: اكتب ما تشاء وأنا أختم على الكتاب، فكتبه وختمه الوالي، وبعث به إلى الحسين مع أخيه يحيى بن سعيد بن العاص، وذهب عبد الله بن جعفر مع يحيى، وجهدا بالحسين أن يثنياه عن السفر فأبى (وصورة كتاب الوالي في تاريخ الطبري ٦: ٢١٩ - ٢٢٠) ، وليس فوق هؤلاء الناصحين أحد في عقلهم وعلمهم ومكانتهم وإخلاصهم، بل إن عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير كان من ناصحيه بعقل وإخلاص (الطبري ٦: ١٩٦) وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان على هذا الرأي (الطبري ٦: ٢١٥ - ٢١٦) والحارث بن خالد بن العاص بن هشام لم يأله نصحا (٦: ٢١٦) وحتى الفرزدق الشاعر قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية. (الطبري ٦: ٢١٨) فلم يفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشئوما عليه، وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة، وكل هذا بجناية شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور، رغبةً في الفتنة والفرقة والشر، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر. ولم يكتف ورثتهم بما فعل أسلافهم فعكفوا على تشويه التاريخ وتحريف الحقائق ورد الأمور على أدبارها.

<<  <   >  >>