انتشر في ربوع الأندلس والمغرب من تلاميذه ومريديه، فدعي في رجب سنة ٥٢٨ لتولي القضاء في إشبيلية. وقد أجمعت كلمة الذين تحدثوا عنه- كالقاضي عياض، وابن بشكوال، وابن سعيد وجميع مؤرخي الأندلس-على أنه كان مثال العدل والاستقامة وحسن القيام بأمر القضاء، قال القاضي عياض: فنفع الله به أهل إشبيلية لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهقة، مع الرفق بالمساكين، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستمر في هذه المدة على إلقاء دروسه مع القيام بأمر القضاء ومواصلة التأليف. إلا أن وقته أصبح ضيقا حتى اضطر تلميذه الإمام الزاهد العابد أبو عبد الله الإشبيلي إلى أن ينقطع عن درسه. فقيل له في ذلك، فقال:(كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان) .
إن المكانة التي وصل إليها ابن العربي في العلم وعزته وسيادته على القلوب-قبل ولايته القضاء-كانت مثار الحسد له والإحنة عليه من العلماء الرسميين الذين يتجرون بقشور العلم ليبنوا بها دنياهم، فلما ازدادت مكانته رفعة بالقضاء مضى فيه مجاهدا في سبيل العدل والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها من سبيل الله، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة، ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود. فازداد غيظ حاسديه، واشتد ضغن صغار النفوس عليه، ولا سيما أهل الجور والظلم والغصب الذين كان شديد الأحكام عليهم والأخذ منهم للمظلومين، منضما إليهم أهل المجون والفسقة الذين تناولهم ابن العربي بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما كان أكثر أهل المجون يومئذ في إشبيلية. يدلك على ذلك حوار عن إشبيلية وقرطبة دار في مجلس منصور بن عبد المؤمن بين أبي الوليد بن رشد وأبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر: ما أدري ما نقول، غير أنه إذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.