وكنت في تلك الحال بحيث يقول الصلاح وإن كان نظمي الدمع المنثور:
توقّد جمرُ القلب عند تغرّبي ... فمن أجلهِ دمعي أتي جيّد السَبْك
وما حفظت عينايَ من سوء حظها ... على كثرة الأشعار إلا قفا نبك
وأما هذه المدينة، فهي آخر مدن المغرب، وهي على ضفة البحر الشامي، بها الآثار العجيبة والرسوم التي تشهد لبانيها بالقوة والحكمة، وهي منيعة الأسوار كثيرة الأشجار، ليس في معمور الأرض كمثلها، ولا في أقطار الأقاليم كشكلها، وهي مقصد التجار من القفار والبحار، يُحمل منها إلى سائر الأقاليم كما يحمل إليها في الزمن الحادث والقديم، والنيل يدخل إليها من تحت أقبية إلى معمورها، ويدور بها فينقسم في دورها، بصنعة عجيبة وحكمة غريبة، يتصل بعضها ببعض أحسن اتصال، لأن عمارتها تشبه رقعة الشطرنج في المثال، وناهيك بمدينة جميع ما فيها عجب، ولكم سَتَر حسنها محاسن غيرها وحجب، وأحد عجائب الدنيا بها المنار، الذي لم ير مثله في الأقطار، وهي على ميل من المدينة، كذا في الخريدة. قلت: وأعجب من هذه المدينة مدينة الهيكل الإنساني.
وحكى السيوطي في المحاضرة نقلاً عن مباهج الفكر أن من عجائب المباني منارة إسكندرية، وهي مبنية بحجارة مهدمة مضببة بالرصاص على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس، وفيها نحو ثلاثمائة بيت بعضها على بعض، تصعد الدابة بحملها إلى سائر البيوت، وللبيوت طاقات ينظر منها إلى البحر، وأختُلف فيمن بناها، ويقال إن طولها ألف ذراع، وكان في أعلاها تماثيل
من نحاس، منها تمثال يشير بسبابته اليمنى نحو الشمس أينما كانت من الفلك، يدور معها حيث دارت. ومنها تمثال وجهه إلى البحر، متى صار مركب منه على نحو ليلة، سمع له صوت هائل، يعلم منه أهل المدينة طروق العدوّ. ومنها تمثال كلّما مضت ساعة من الليل صوّت